الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر ، أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجبا وشعبان وشهر رمضان وشوالاً ، يبعث فيما بين ذلك من غزوة وسراياه صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمراً عمرة القضاء ، مكان عمرته التي صدوه عنها . قال ابن هشام : واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الديلي . ويقال لها عمرة القصاص ، لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست ، فاقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فدخل مكة في ذي القعدة ، في الشهر الحرام الذي صدوه فيه ، من سنة سبع . وبلغنا عن ابن عباس أنه قال : فأنزل الله في ذلك : قال ابن إسحاق : وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك ، وهي سنة سبع ، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه ، وتحدثت قريش بينها أن محمداً وأصحابه في عسرة وجهد وشدة . قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم ، عن ابن عباس ، قال : صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه ؛ فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه ، وأخرج عضده اليمنى ، ثم قال : رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ، ثم استلم الركن ، وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه ، حتى إذا واراه البيت منهم ، واستلم الركن اليماني ، مشى حتى يستلم الركن الأسود ، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ، ومشى سائرها . فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش الذي بلغه عنهم ، حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها ، فمضت السنة بها . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها وعبدالله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول : خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيلة * أعرف حق الله في قبوله نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله قال ابن هشام : نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات ، لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم ، والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين ، والمشركون لم يقروا بالتنزيل وإنما يقتل على التأويل من أقر بالتنزيل . قال ابن إسحاق : وحدثني أبان بن صالح وعبدالله بن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رباح ومجاهد أبي الحجاج ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام ، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبدالمطلب . قال ابن هشام : وكانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل ، وكانت أم الفضل تحت العباس ، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس ، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وأصدقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مائة درهم . قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً ، فأتاه حويطب بن عبدالعزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ، في نفر من قريش ، في اليوم الثالث ، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ؛ فقالوا له : إنه قد انقضى أجلك ، فاخرج عنا ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه قالوا : لا حاجة لنا في طعامك ، فاخرج عنا . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة ، حتى أتاه بها بسرف فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة . قال ابن هشام : فأنزل الله عز وجل عليه ، فيما حدثني أبو عبيدة : قال ابن إسحاق : فأقام بها بقية ذي الحجة ، وولي تلك الحجة المشركون ، والمحرم وصفرا وشهري ربيع ، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة . قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبدالله ابن رواحة على الناس . ومن بني عدي بن كعب : ليلى بنت أبي حثمة بن غانم . فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج ، وهم ثلاثة آلاف ، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم . فلما ودع عبدالله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى ؛ فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة ؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل ، يذكر فيها النار لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا قال ابن إسحاق : ثم إن القوم تهيئوا للخروج ، فأتى عبدالله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ، ثم قال : فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم بالشعر هذه الأبيات : أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر فثبت الله ما آتاك من حسن * في المرسلين ونصرا كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة * فراسة خالفت فيك الذي نظروا يعني المشركين ؛ وهذه الأبيات في قصيدة له . قال ابن إسحاق : ثم خرج القوم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم ، قال عبدالله بن رواحة : خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل ثم مضوا حتى نزلوا معان ، في أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء ، في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم ، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة ، يقال له : مالك بن زافلة . فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضي له . قال : فشجع الناس عبدالله بن رواحة ، وقال : يا قوم ، والله إن التي تكرهون ، للتي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة . قال : فقال الناس : قد والله صدق ابن رواحة . فمضى الناس فقال عبدالله بن رواحة في محبسهم ذلك : جلبنا الخيل من أجإ وفرع * تغر من الحشيش لها العكوم حذوناها من الصوان سبتا * أزل كأن صفحته أديم أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها السموم فلا وأبى مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها بريم بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها والنجوم فراضية المعيشة طلقتها * أسنتها فتنكح أو تئيم قال ابن هشام : ويروى جلبنا الخيل من آجام قرح ، وقوله : فعبأنا أعنتها عن غير ابن إسحاق . قال ابن إسحاق : ثم مضى الناس ، فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم ، قال : كنت يتيماً لعبدالله بن رواحة في حجره ، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله ، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه : إذا أديتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهى الثواء وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الإخاء هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء فلما سمعتهن منه بكيت . قال : فخفقني بالدرة ، وقال : ما عليك يا لكع أن يرزقني الله شهادة وترجع بين شعبتي الرحل ! قال : ثم قال عبدالله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز : يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل قال ابن إسحاق : فمضى الناس ، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل ، من الروم والعرب ، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة ، فالتقى الناس عندها ، فتعبأ لها المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة ، يقال له : قطبة بن قتادة ، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له : عباية بن مالك . قال ابن هشام : ويقال : عبادة بن مالك . قال ابن إسحاق : ثم التقى الناس واقتتلوا ، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم . ثم أخذها جعفر فقاتل بها ، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء ، فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل . فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام . وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني ، وكان أحد بني مرة بن عوف ، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال : والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول : يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها والروم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها علي إذا لاقيتها ضرابها * قال ابن هشام : وحدثني من أثق به من أهل العلم : أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء . ويقال : إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة ، فقطعه بنصفين . قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد قال : حدثني أبي الذي أرضعني ، وكان أحد بني مرة بن عوف ، قال : فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية ، ثم تقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، ثم قال : أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه * ما لي أراك تكرهين الجنة قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه وقال أيضاً : يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت يريد صاحبيه : زيداً وجعفراً ؛ ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ، فقال : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل . ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان ، فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل . فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ؛ فلما أخذ الراية دافع القوم ، وحاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف بالناس . قال ابن إسحاق : ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني : أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً ؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً ؛ قال : ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار ، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون ، ثم قال : ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً . ثم قال : لقد رفعوا إلى الجنة ،فيما يرى النائم ، على سرر من ذهب ، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه ، فقلت : عم هذا ؟ فقيل لي : مضيا وتردد عبدالله بعض التردد ، ثم مضى . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن أم عيسى الخزاعية ، عن أم جعفر بن محمد بن جعفر بن أبي طالب ، عن جدتها أسماء بنت عميس ، قالت : لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا - قال ابن هشام : ويروى أربعين منيئة - وعجنت عجيني ، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم . قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتني ببني جعفر ؛ قالت : فأتيته بهم فتشممهم وذرفت عيناه ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ؟ قال : نعم ، أصيبوا هذا اليوم . قالت : فقمت أصيح ، واجتمعت إلي النساء ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، فقال : لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً ، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم . وحدثني عبدالرحمن بن القاسم بن محمد ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن . قالت : فدخل عليه رجل فقال : يا رسول الله ، إن النساء عنيننا وفتننا ؛ قال : فارجع إليهن فأسكتهن . قالت : فذهب ثم رجع ، فقال له مثل ذلك - قال : تقول وربما ضر التكلف أهله - قالت : قال : فاذهب فأسكتهن ، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب ، قالت : وقلت في نفسي : أبعدك الله ! فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : وعرفت أنه لا يقدر على أن يحثي في أفواههن التراب . قال ابن إسحاق : وقد كان قطبة بن قتادة العذري ، الذي كان على ميمنة المسلمين ، قد حمل على مالك بن زافلة فقتله ، فقال قطبة بن قتادة : طعنت ابن زافلة بن الإرا * ش برمح مضى فيه ثم انحطم ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم وسقنا نساء بني عمه * غداة رقوقين سوق النعم قال ابن هشام : قوله : ابن الإراش عن غير ابن إسحاق . والبيت الثالث عن خلاد بن قرة ؛ ويقال : مالك بن رافلة : قال ابن إسحاق : وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قد قالت لقومها من حدس ، وقومها بطن يقال لهم : بنو غنم أنذركم قوماً خزراً ، ينظرون شزراً ، ويقودون الخيل تترى ، ويهريقون دما عكراً ، فأخذوا بقولها ، واعتزلوا من بين لخم ؛ فلم تزل بعد أثرى حدس . وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة ، بطن من حدس ، فلم يزالوا قليلاً بعد . فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلاً . قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير قال : لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون . قال : ولقيهم الصبيان يشتدون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة ، فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطوني ابن جعفر . فأتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه . قال : وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ، ويقولون : يا فرار ، فررتم في سبيل الله ! قال : فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليسوا بالفرار ، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عامر بن عبدالله بن الزبير ، عن بعض آل الحارث بن هشام : وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين ؟ قالت : والله ما يستطيع أن يخرج ، كلما خرج صاح به الناس يا فرار ، فررتم في سبيل الله ، حتى قعد في بيته فما خرج . قال ابن إسحاق : وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم ، قيس بن المسحر اليعمري ، يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس . فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل قابعة قبل وقفت بها لا مستجيرا فنافذا * ولا مانعا من كان حم له القتل على أنني آسيت نفسي بخالد * ألا خالد في القوم ليس له مثل وجاشت إلي النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عزل فتبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره ، أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت ، وحقق انحياز خالد بمن معه . قال ابن هشام : فأما الزهري فقال فيما بلغنا عنه : أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد ، ففتح الله عليهم ، وكان عليهم حتى قفل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : وكان مما بكى به أصحاب مؤتة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول حسان بن ثابت : تأوبني ليل بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان الحبيب بلية * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر رأيت خيار المؤمنين تواردوا * شعوب وخلفا بعدهم يتأخر فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبدالله حين تتابعوا * جميعاً وأسباب المنية تخطر غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبي إذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مال غير موسد * لمعترك فيه قنا متكسر فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمراً حازماً حين يأمر فما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم عز لا يزلن ومفخر هم جبل الإسلام والناس حولهم * رضام إلى طود يروق ويقهر بها ليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير وحمزة والعباس منهم ومنهم * عقيل وماء العود من حيث يعصر بهم تفرج اللأواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم ، وفيهم ذا الكتاب المطهر شعر كعب بن مالك في غزوة مؤتة وقال كعب بن مالك : نام العيون ودمع عينك يهمل * سحاً وكف الطباب المخضل في ليلة وردت علي همومها * طورا أحن وتارة أتململ واعتادني حزن فبت كأنني * ببنات نعش والسماك موكل وكأنما بين الجوانح والحشى * مما تأوبني شهاب مدخل وجدا على النفر الذين تتابعوا * يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى ا لإله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للإله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق عليهن الحديد المرفل إذ يهتدون بجعفر ولوائه * قدام أولهم فنعم الأول حتى تفرجت الصفوف وجعفر * حيث التقى وعث الصفوف مجدل فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل قرم علا بنيانه من هاشم * فرعا أشم وسؤدداً ما ينقل قوم بهم عصم الإله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عزة وتكرما * وتغمدت أحلامهم من يجهل لا يطلقون إلى السفاه حباهم * ويرى خطيبهم بحق يفصل بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل يهديهم رضي الإله لخلقه * وبجدهم نصر النبي المرسل حسان يبكي جعفراً بعد غزوة مؤتة وقال حسان بن ثابت يبكي جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه : ولقد بكيت وعز مهلك جعفر * حب النبي على البرية كلها ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي * من للجلاد لدى العقاب وظلها بالبيض حين تسل من أغمادها * ضربا وإنهال الرماح وعلها بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً * وأعزها متظلما وأذلها للحق حين ينوب غير تنحل * كذباً ، وأنداها يداً وأقلها فحشا ، وأكثرها إذا ما يجتدى * فضلاً ، وأبذلها ندى وأبلها بالعرف غير محمد لا مثله * حي من أحياء البرية كلها حسان يبكي زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة بعد مؤتة : وقال حسان بن ثابت في يوم مؤتة يبكي زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة : عين جودي بدمعك المنزور * واذكري في الرخاء أهل القبور واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم راحوا في وقعة التغوير حين راحوا وغادروا ثم زيداً * نعم مأوى الضريك والمأسور حب خير الأنام طرا جميعا * سيد الناس حبه في الصدور ذاكم أحمد الذي لا سواه * ذاك حزني له معا وسروري إن زيدا قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور ثم جودي للخزرجي بدمع * سيداً كان ثم غير نزور قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن نبيت غير سرور قول أحد الشعراء بعد رجوعه من مؤتة وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من غزوة مؤتة كفى حزنا أني رجعت وجعفر * وزيد وعبدالله في رمس أقبر قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم * وخلفت للبلوى مع المتغبر ثلاثة رهط قدموا فتقدموا * إلى ورد مكروه من الموت أحمر وهذه تسمية من استشهد يوم مؤتة . من قريش ، ثم من بني هاشم : جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وزيد بن حارثة رضي الله عنه . ومن بني عدي بن كعب : مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة . ومن بني مالك بن حسل : وهب بن سعد بن أبي سرح . ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج : عبدالله بن رواحة ، وعباد بن قيس . ومن بني غنم بن مالك بن النجار : الحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة ابن عبد بن عوف بن غنم . ومن بني مازن بن النجار : سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء . من ذكرهم ابن هشام : قال ابن هشام : وممن استشهد يوم مؤتة ، فيما ذكر ابن شهاب : من بني مازن بن النجار : أبو كليب وجابر ، ابنا عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول وهما لأب وأم . ومن بني مالك بن أفصى : عمرو وعامر ، ابنا سعد بن الحارث بن عباد ابن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى . قال ابن هشام : ويقال : أبو كلاب وجابر ، ابنا عمرو .
|